[color=#0000FF][size=18]
رحلة العلاّمة الفهّامة إلى بلاد الدّندوقي والفحّامة
وصل الخبر عشية يوم الخميس بأن آلة الحصاد قد قصدت البلاد ، أخبرني بذلك الوالد ، فذكرت السنين العجاف حين بتّ ليلة ليلاء في أرض الفحّامة الفيحاء ، وذكرت الحصاد في تلك الوهاد ووجوهنا معفّرة وشعورنا مغبّرة ، ولا يغطي أجسادنا غير السواد .
فقرّ قرار والدي على رحلتي مع أحد إخوتي .
وفي الصبيحة من يوم الجمعة نهضت وتوضأت وصليت فرضي وسنتي ، وتناولت قهوتي في خفة وسرعة.
ونادى المنادي بقرب الميعاد ، فأخبرت أولادي وألحوا عليّ برفقتي إلى تلك البلاد .
وتعالى الصياح ، فهب ولدي صلاح منذ الصباح يريد الرواح ، أما ولدي أحمد فحلف يمينا أن لا يرقد ولا يقعد .
ولما حانت الساعة ، أخذنا المتاعا وامتطينا الركب العظيم مع أخينا الكريم .
وسارت بنا السيارة صوب مقصدنا سيرا حثيثا ، وكلن لهف وكلنا شغف .
واجتزنا القبلة ، والوادي المليح فلم نجد فيه سوى الريح ، ثم عبرنا منطقة القصور فلم نر أيا من هذه القصور ..واستقبلنا ذراع الرمل بسفوف الرمل ، لا بالحفل ولا بالطبل ، ثم جاوزنا مدينة المرموثة ووجدناها لا محصودة ولا محروثة ومنازلها في كل مكان مبثوثة .
ثم جاوزنا إلى رسم البوازيد ، غير بعيد فأدهشنا منظر مسجده الوحيد في تلك القفار والبيد ، وقد سموه جامع خالد بن الوليد .
ثم سلكنا طريقا طويلة تارة ملتوية وتارة مستطيلة إلى أن أطلت علينا قرية ديفل فعبرنا ها دون تمهل ، إلى أن صادفنا إشارة تقول إلى أولاد جلال الدخول فاستبشرنا بالخير وتمهلنا في السير .
ثم دخلنا محطة الوقود وعجبنا من أن أهلها قعود ، فتمهلنا إلى حين ، حتى تزودنا بالبنزين ، وسلخوا من جيوبنا عشرين .
وعبرنا بين نخيل طوال باسقات ، وعصافير الصباح مشرقات .
وهلت علينا بلدة أولاد جلال بكل هيبة وجلال ، وراعني في مدخلها منظر منارتين جميلتين مجتمعتين ، منارة تنير الطرقات في الليالي الظلماء على عمود كهرباء
ومنارة تنير القلوب الحائرة التائهة ، منارة المسجد السمحاء ، فكان المنظر معبرا عن ذاته موحيا تمام الإيحاء .
ثم اجتزنا وسط المدينة وأعجبتنا بناءاتها المتينة الأصيلة ، وطرقاتها الحصينة الطويلة ، وجنانها الخضراء الجميلة .
وتوجهنا جنوبا حيث طريق يؤدي إلى ضفاف وادي جدي وقنطرته الجليلة ..والرزينة ، ومررنا بشوارع تعمها السكينة ، لا أثر للناس فيها وكأنها حزينة ، ثم مررنا بقرب الرحبة العتيقة ، واستمتعنا بمنظر منارة مسجدها العريقة .
واجتزنا قنطرة الوادي الدفين ، وعبرنا المقبرة التي يشقها الطريق نصفين ، وسلمنا على واليها وواديها أمانة نؤديها .
ثم ودعنا أولاد جلال وحدودها ، وأحفادها وجدودها وأنهارها وسدودها ، واستقبلتنا حدود أولاد حركات الأبية ، مع بزوغ أشعة الصباح الذهبية .
وسرنا على طريق ممهدة وطويلة ، معبدة وجميلة مسافة عشرين كيلومترا افرنجيا ، ووصلنا قرية الجدر بتباشير الصباح ، وتغريد العصافير الملاح .
وعلى جانب الطريق الطويل شاهدنا مسجدها الجميل ، ثم توغلنا عبر سكناتها المتناثرة وسلكنا شعبة غريبة ومريبة ، من الجهة الغربية لا ممهدة ولا مستوية ، وعلى جانبيها تحيينا أشجارها الشوكية ، فتحققنا العطب ، وزار قلوبنا الرهب ، وحدثتنا نفوسنا بحدوث الكرب ولزوم الهرب ، وزاد من ذلك كثرة الحفر ، فندمنا أي ندم على هذا السفر فأين أين المفر . لكن أطلت علينا عن كثب حقول سنابل الذهب ، تنتظر الحصاد ..فتنفسنا الصعداء وتوقفنا هنيهة نلتقط أنفاسنا ، ونلتقط أيضا بعض الصور لبعض الشجر ، وتلك الحفر ، ثم استأنفنا السفر مع اشتداد الحر ..وتحسسنا أرضنا فتعرفنا عليها والحمد لله على ذلك .
ونزلنا ..وغير بعيد عنا ظهرت قرية الدندوقي مع اكتمال ضوء الشروق .
وتأملنا الزرع وحالته فوجدناه قد لوى أعناقه ودقت ورقت ساقه ، وكأنه حزين على البعاد ، وطول زمان الحصاد .
واستقصينا يمينا وشمالا عسى نجد أثرا للآلة ، فلم نجد إلا أنفسنا وصرير الدبابير ، وتغريد العصافير ، وطائري الهدهد والبوم في هذه التخوم .
ووقف أخي غير بعيد يبحث عن حقل المحمول في وسط حقل المحصول يريد الاتصال بالوالد ، ويخبره عن عدم وجود الحصّادة ولا الحاصد .
وانطلق أولادي يجرون وينطون نطات لطيفة مثل نط القطات الظريفة ، وسط تلك السنابل الخفيفة ..ووقفت أتأمل المنظر المهيب وذلك السكون والجمال الرهيب ، وصوت العندليب وتغريده العجيب .
وأسرعت أصور أشجار النبق الخضراء ومختلف الشجيرات بأزهارها الفيحاء ، ثم صوّرت ابني الأكبر بلباسه الرياضي الأخضر فكان أحسن منظر ، وصوّرت ابني الأصغر أمام لون السنابل الأصفر فكان أبهج منظر .وتعجبت من رؤية أثر الحياة في بعض الحشرات كالحلزون الأبيض والخنفساء الخضراء ، فلم أفوت فرصة التصوير
والتقطت مناظر جانبية لكثير من الأشجار والشجيرات البهية ، وأعجبت بمنظر الأزهار الشوكية وألوانها البهيجة الجلية ، وصورت سنابل الفرينة بحباتها المليئة الحزينة .
وعثرت على صمغ عطري على فروع أحد الأشجار ، فتأثرت وصورته وقلت لو كان معنا الطبيب العربي ابن البيطار لأفرد في كتابه (جامع الأدوية) شيئا من هذه الآثار .
ثم يممت صوب أرض خالية رملية ، تتوزع بها حجارة بيضاء مستطيلة ، وبعد تمعن وتفحص لمدة طويلة ، جزمت وتأكدت أن هذه ليست بحجر وإنما هي مستحاثات ومتحجرات لجذوع الشجر .
كانت نابتة في هذا المكان ، أو هي متحجرات لعظاءات وزواحف كانت تصول وتجول في قديم الزمان .
ويدل شكلها على فقرات عظمية أو جذوع أشجار ، فصورت تلك الآثار ..حيث تكلست من آلاف بل ملايين السنين الغابرة وبقيت هناك متناثرة ، والله أعلم في ذلك ، وأدرى بتلك الظاهرة .
إلى أن دقت الساعة العاشرة ، فنادى المنادي بالرحيل ، مادام الجو عليل ، لأجل الوصول قبل صلاة الجمعة والنزول ، فكان أن امتطينا سيارة الشفرولي ، وودعنا عالم هذه الحقول .
ونفوسنا منشرحة مستريحة جراء هذه الفسحة المريحة ، في أرض الله الفسيحة ،
ولسان حالنا يقول كما قال الشاعر :
ــ يا ناق سيري عنقا فسيحا * إلى سليمان فنستريحا .